معركة بدر
صفحة 1 من اصل 1
معركة بدر
المعلق:
سوى الرسول -صلى الله عليه وسلم- صفوف رجاله، وجلس في مكان القيادة في العريش وبجانبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأخذ يدعو الله، ويبشر أصحابه، ويرفع من معنوياتهم.
والتحم الجيشان بعد المبارزة، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، وقام عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، وألقى بتميرات كانت بيده يأكلها وقال: بخ بخ، وقاتل حتى كان أول شهيد في المعركة.
وقاتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قتالاً شديداً، وكان أقرب الناس من العدو وكان من أشد الناس بأسًا، ونزل الله الملائكة بالرحمة والنصر وقاتلوا المشركين، قال تعالى: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ? [الأنفال: 12].
يقول عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، وقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه فقتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أيكما قتله؟) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: (هل مسحتما سيفيكما؟) فقالا: لا، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: (كلاكما قتله، وهما ابنا عفراء).
وتمكن عبد الرحمن بن عوف من أسر أمية بن خلف، وعندما رآه بلال معه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، وحاول عبد الرحمن أن يثنيه عن عزمه فلم يستطع، بل استنفر بلال الأنصار فلحقوا به معه وقتلوه.
وعندما طرح قتلى المشركين في القليب، لم يطرح معهم، بل قبر مكانه لتفرق أعضائه، وقتل عمر بن الخطاب العاص بن هاشم بن المغيرة، وانجلت المعركة عن نصر كبير للمسلمين إذ قتلوا سبعين من المشركين، وأسروا سبعين.
ولم يقتل من المسلمين سوى أربعة عشر رجلاً ستةٍ من قريش وثمانيةٍ من الأنصار.
روى البخاري ومسلم وابن إسحاق وغيرهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبَث.
وفي ثالث يوم من بدر مشى وأصحابه حتى قام على القليب، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)، فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم).
عندما ألقي قتلى المشركين في القليب كان فيهم عتبة بن ربيعة فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه.
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء)، فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلمًا وفضلاً فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير وقال له خيرًا.
بعد نهاية المعركة وانتصار المسلمين وأخذ الأسرى استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في أمرهم، فأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم ضماناً لقوة الدولة الإسلامية لأنهم يشكلون عامل تحدٍ وخطورة، وهم من صناديد مكة.
وأشار أبو بكر الصديق بأخذ الفدية منهم، إذ كان يرى أن في ذلك قوة للمسلمين، وكان يأمل أن يهديهم الله تعالى للإسلام.
وقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأي أبي بكر وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال أُخذ فداؤه، وتتناقص الأموال المأخوذة منهم بعد ذلك تبعاً لكفاءاتهم المالية، وقد حفظت لنا المصادر نماذج منها، فمن ذلك أنه استوفى من العباس بن عبد المطلب مائة أوقية من الذهب فداءً عنه، ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية، واستوفى من آخرين أربعين أوقية، لكل منهم.
وقد نزل القرآن العظيم بعد ذلك موافقاً لرأي عمر وذلك في قوله تعالى: ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?67? لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?68? فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?69? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [الأنفال: 67- 70].
لقد نزلت هذه الآيات في عتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه قبل فداء الأسرى وهم رؤوس الفتنة وأئمة الكفر، إنهم كمجرمي الحرب الذين لا يجوز الإبقاء على حياتهم، وتشير الآية إلى أن الفداء ممكن بعد أن يكون المسلمون قد ثبتوا أقدامهم في الأرض وأقاموا دولة قوية.
وقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل إطلاق قريش سراح سعد بن النعمان بن أكال الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر بالبيت العتيق.
وأطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- سراح بعض الأسرى الذين لم يقدروا على دفع شيء، أما الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة ولم يكن لدى أهليهم أو لديهم مقدرة على الفداء فقد جعل فداءهم أن يعلموا عشرة من أبناء الأنصار القراءة والكتابة.
وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدَ بن حارثة و عبد الله بن رواحة إلى المدينة ليزفا بشرى النصر، وقد تلقى المسلمون الخبر بسرور بالغ، وقد ذكر أسامة بن زيد أنه لم يصدق الخبر إلى أن رأى الأسرى مقرنين, وكانت الدهشة تعلو الوجوه.
إذ لم يصدق الناس في بادئ الأمر أن قريشاً قد هُزمت، وأن زعماءها قد أصبحوا بين قتيل وأسير، وأن كبرياءها قد تحطمت.
ارتفعت معنويات المسلمين كثيراً بعد انتصارهم الكبير في معركة بدر الكبرى، وحرصوا على تأديب المعاندين من المشركين حول المدينة، وأسلم عدد كبير من بني خطمة، وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي، وبعد سبع ليالٍ من عودته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة من معركة بدر توجه إلى بين سُليم، وبلغ ماء الكدر، وأقام ثلاث ليالٍ على الماء ولم يلقَ قتالاً فرجع إلى المدينة.
وفي يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قينقاع، إذ لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمهما معهم ولم يوفوا بالتزاماتهم.
ووقفوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- مواقفَ عدائية، فأظهروا الحسد والغضب وجاهروا بعداوتهم بعد معركة بدر، وقد جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم من أن ينقضوا المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته فجابهوه بقولهم: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلقَ مثلنا.
وبدأت الأزمة تتفاعل وكان جوابهم يشير إلى العداوة وعدم الاحترام، وأنزل الله تعالى: ?قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ?12? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ? [آل عمران: 12، 13].
واستمر اليهود من بني قينقاع يظهرون الروح العدائية، فقد أقدم أحدهم على الاعتداء على كرامة إحدى النساء المسلمات، فعقد طرف ثوبها وهي جالسة دون أن تعلم، فلما قامت انكشفت، فاستصرخت المسلمين، فأغاثها أحدهم وقتل اليهودي، وتواثب اليهود على المسلم، فقتلوه واستصرخ أهل المسلم إخوانهم المسلمين، ووقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
فعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- لواءً أبيض لحمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لُبابة بن عبد المنذر، وخرج بقواته وحاصرهم خمس عشرة ليلة، وحين اشتد عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، وكانوا صاغة وتجارًا وحلفاء عبد الله بن أبي بن سلول، وكانوا أشجع اليهود فكلمه حليفهم وألح قائلاً: أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة؟
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هم لك)، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري، فخُمست وقسم الباقي بين الصحابة، وأعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه اليهود لمحاربتهم المسلمين ومظاهرة لله ولرسوله، فقال: يا رسول الله إن لي مواليَ من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.
ولقد أنزل الله -سبحانه وتعالى- في موالاة عبد الله بن أبي سلول لليهود وبراءة عبادة بن الصامت منهم: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ? [المائدة: 51].
بعد هزيمة قريش في معركة بدر، أراد أبو سفيان أن يقوم بعمل انتقامي، فاصطحب معه مائتي فارس وتقدم سراً نحو المدينة في الخامس من ذي الحجة، وسلك النجدية.
ونزل بصدر قناة إلى جبل ثيب من المدينة على بعد أربعين كيلو متراً، وتسلل في الليل حتى أتى بني النضير، فطرق باب حصن حيي بن أخطب، فأبى أن يفتح له وخافه.
فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فطرق بابه ففتح له، واستقبله واستضافه وسقاه، وقدم له المعلومات عن المسلمين وأسرارهم.
ثم خرج لأصحابه فبعث رجالاً من قريش للمدينة ووصلوا ناحية منها، يقال لها العُريض، فحرقوا النخل ووجدوا رجلاً من الأنصار وعاملاً له فقتلوهما وانصرفوا راجعين.
فاستغاث الناس وخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكُدر، وعاد بعد أن فر أبا سفيان وأصحابه مخلفين وراءهم الزاد من السويق وهو القمح المحمص المطحون تخفيفاً للهرب والنجاة.
فأخذها المسلمون وعادوا إلى المدينة بغذاء وفير، وأقام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقية شهر ذي الحجة، ثم توجه إلى قبيلتي غطفان وسليم، فقد علم أن القبيلتين قد جمعتا جموعًا على ماء لبني سليم بقرقرة الكدر، فقد تضررت القبيلتان اقتصادياً من حصار المسلمين لقريش تجارياً، واتجه -عليه الصلاة والسلام- إليهم بمئتي مقاتل، وداهمهم على الماء، ففروا تاركين وراءهم جمالهم التي بلغ تعدادها خمسمائة بعير.
وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الموقع ثلاثة أيام، ثم عاد إلى المدينة.
وفي شهر صفر من السنة الثالثة للهجرة توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قبيلة غطفان التي تجمعت في ذي أمر من أرض نجد بهدف محاربة المسلمين، وسرعان ما هربوا حين علموا بتوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ناحيتهم.
وكان عدد جيش المسلمين أربعمائة وخمسين رجلاً، وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بقواته على ماء ذي أمر طيلة شهر صفر، ثم قفل عائداً إلى المدينة، وفي جمادى الأولى توجه إلى بُحرانَ من ناحية الفرع بقوة بلغ تعدادها ثلاثمائة مقاتل مستهدفًا بني سليم الذين كانوا يؤمنون الطرق التجارية لقريش بين مكة المكرمة وبلاد الشام.
ولكنه لم يلقَ قتالاً فعاد إلى المدينة المنورة.
وأرادت قريش أن تحمي تجارتها من الأخطار التي تتعرض لها في الداخل والساحل بين مكة وبلاد الشام بعد ازدياد العملية العسكرية الإسلامية وبعد انقلاب الموازين بعد معركة بدر، ولذلك فكر تجار قريش أن يسيروا بقافلتهم عبر الطريق المتجهة إلى نجد فالعراق.
وخرج أبو سفيان على رأس قافلة شارك في تمويلها عدد كبير من تُجار قريش وهي تحمل كميات كبيرة من الفضة إضافة إلى المواد المختلفة واستأجروا دليلاً من بني بكر بن وائل، وحين علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبر القافلة أرسل زيد بن حارثة على رأس مائة من المسلمين في إثرهم.
فلحقوا بهم على ماء بنجد يسمى القرضة، فأصاب القافلة وحمولتها الثمينة بعد أن فر رجالها، وذلك بعد ستة أشهر من معركة بدر الكبرى، وبلغت قيمة الغنائم مائة ألف درهم، مما عرض تجارة قريش لضربة عنيفة.
كما أن نجاح المسلمين في ضرب طريق العراق أمام تجارة قريش أدى إلى إحكام الحصار الاقتصادي عليها مما جعلها تفكر بالقيام بعمل عسكري.
معركة أحد
تعددت الأسباب التي أدت إلى نشوب القتال والحرب في أحد، وكان أهمها ما أصاب قريش في بدر بعد أن أصيب صناديدها وزعماؤها، وأصبح طريق تجارتها إلى بلاد الشام تحت سيطرة المسلمين.
كانت استعدادات قريش للحرب قد بدأت مبكرة في أعقاب هزيمتها؛ إذ اجتمع أبناء القتلى إلى أبي سفيان وأصحاب القافلة التي سلمت قبل بدر، فتنازلوا عنها ورصدوا أموالها لتجهيز جيش الثأر، واستطاع أبو سفيان الذي تولى القيادة للحرب أن يجمع من قريش وحلفائها من قبائل كنانة وأهل تهامة والأحابيش ثلاثة آلاف مقاتل، بينهم مئتا فارس وسبعمائة دارع.
فخرج بهم واصطحب هو وأعيان قريش نساءهم ليشجعوهم على القتال، ويمنعوهم التخاذل أو الفرار من المعركة.
ونزل في مكان اسمه عينين بالقرب من جبل أحد، شمال المدينة، وبلغت أنباء تقدم قوات قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل دورية استطلاع لتأتيه بالأخبار.
وأمر بالاستنفار العام وتشديد الحراسة على المدينة وجمع أصحابه ليستشيرهم في الأمر.
كان رأي عدد كبير من الصحابة وشبان المسلمين أن يخرجوا لملاقاة المشركين في مكانهم، وحجتهم في ذلك أنهم انتصروا يوم بدر وكانت نسبة تفوق المشركين أكثر مما هي الآن، وكي لا يتهموا بالجبن، وبأن المشركين اقتحموا عليهم مدينتهم.
وكان أبرز القائلين بهذا الرأي حمزة بن عبد المطلب، وقال مالك بن سنان في تأييد هذا الرأي: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما أن يظفرنا الله بهم، أو يرزقنا الشهادة.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرغب في اتباع خطة جديدة واستدراج العدو إلى داخل المدينة والاشتباك معه، ويرى البقاء والتحصن وقال: (إنا في جُنَّةٍ حصينة)، وأبدى بعض الأنصار كراهة القتال في طرق المدينة وقالوا: كنا نمتنع من الغزو في الجاهلة فبالإسلام أحق أن نمتنع منه!! فابرز إلى القوم.
انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلبس لأمته، وتلاوم القوم وقالوا: عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله -صلى الله عليه وسلم-: أمرنا لأمرك متبِع.
فأتى حمزة وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما كان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز).
لبس النبي -صلى الله عليه وسلم- درعين، وعقد راية سوداء وثلاثة ألوية أحدها للمهاجرين والثاني للأوس والثالث للخزرج، وخرج على رأس ألف من أصحابه، وانخذل في الطريق عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش بعدما قطعوا شوطاً من الطريق، عاد بهم إلى المدينة وكان يرى أن يبقى في المدينة ووافق رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- وخرج مكرهًا.
وفي الطريق قال: أطاعهم وعصاني، ما ندري على ما نقتل أنفسنا أيها الناس، وقد حاول الصحابي عبد الله بن عمرو بن حرام تدارك الأمر، فلحق بالمنافقين المنسحبين وحاول إقناعهم، وبعد أن يأس منهم سأل الله أن يبعدهم وأن يغني الله نبيه عنهم.
قال تعالى: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ?166? وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ? [آل عمران: 166، 176].
وكاد بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما طائفتان من المسلمين أن يتخاذلا وينسحبا مع المنافقين لولا أن الله ثبتهم، وفيهم قال الله تعالى: ? إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [آل عمران: 122].
بقي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبعمائة رجل بعد انسحاب ابن أبي، واختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم خمسين راميًا، وعيَّنَ عليهم قائداً هو عبد الله بن جبير، وأمره أن يتمركز مع رجاله على الجبل للرمي بالنبال على خيل المشركين ومنعهم من مهاجمة المسلمين من خلفهم.
وقال لعبد الله: (إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك، لا نوتين من قبلك)، وجعل جبل أحد خلف جيشه وسوى الصفوف وأمر رجاله ألا يبدؤوا القتال حتى يأمر بذلك، وسلم اللواء لمصعب بن عمير.
وأما جيش المشركين فكان يتألف من ثلاثة آلاف رجل بينهم سبعمائة دارع، ومعهم مئتا فرس، وخرج معهم سبع عشرة امرأة، تقودهم هند بنت عتبة زوج أبو سفيان، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ووضعوا قلب الجيش في مواجهة جيش المسلمين وسلموا لواءهم إلى بني عبد الدار.
سوى الرسول -صلى الله عليه وسلم- صفوف رجاله، وجلس في مكان القيادة في العريش وبجانبه أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، وأخذ يدعو الله، ويبشر أصحابه، ويرفع من معنوياتهم.
والتحم الجيشان بعد المبارزة، وقال -عليه الصلاة والسلام-: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض)، وقام عمير بن الحمام الأنصاري فقال: يا رسول الله جنة عرضها السماوات والأرض، وألقى بتميرات كانت بيده يأكلها وقال: بخ بخ، وقاتل حتى كان أول شهيد في المعركة.
وقاتل الرسول -صلى الله عليه وسلم- قتالاً شديداً، وكان أقرب الناس من العدو وكان من أشد الناس بأسًا، ونزل الله الملائكة بالرحمة والنصر وقاتلوا المشركين، قال تعالى: ?إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ? [الأنفال: 12].
يقول عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال لي أحدهما سراً من صاحبه: يا عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه، وقال لي الآخر سراً من صاحبه مثله، قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما، فأشرت لهما إليه، فشدا عليه مثل الصقرين حتى ضرباه فقتلاه، ثم انصرفا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: (أيكما قتله؟) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، قال: (هل مسحتما سيفيكما؟) فقالا: لا، فنظر -صلى الله عليه وسلم- إلى السيفين فقال: (كلاكما قتله، وهما ابنا عفراء).
وتمكن عبد الرحمن بن عوف من أسر أمية بن خلف، وعندما رآه بلال معه قال: رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا، وحاول عبد الرحمن أن يثنيه عن عزمه فلم يستطع، بل استنفر بلال الأنصار فلحقوا به معه وقتلوه.
وعندما طرح قتلى المشركين في القليب، لم يطرح معهم، بل قبر مكانه لتفرق أعضائه، وقتل عمر بن الخطاب العاص بن هاشم بن المغيرة، وانجلت المعركة عن نصر كبير للمسلمين إذ قتلوا سبعين من المشركين، وأسروا سبعين.
ولم يقتل من المسلمين سوى أربعة عشر رجلاً ستةٍ من قريش وثمانيةٍ من الأنصار.
روى البخاري ومسلم وابن إسحاق وغيرهم أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلاً من صناديد قريش فقذفوا في طوي من أطواء بدر خبيث مخبَث.
وفي ثالث يوم من بدر مشى وأصحابه حتى قام على القليب، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان، ويا فلان بن فلان: (أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً)، فقال عمر: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : (والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمعَ لما أقول منهم).
عندما ألقي قتلى المشركين في القليب كان فيهم عتبة بن ربيعة فنظر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى وجه ابنه أبي حذيفة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه.
فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء)، فقال: لا والله يا رسول الله، ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكنني كنت أعرف من أبي رأياً وحلمًا وفضلاً فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك، فدعا له رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخير وقال له خيرًا.
بعد نهاية المعركة وانتصار المسلمين وأخذ الأسرى استشار النبي -صلى الله عليه وسلم- أصحابه في أمرهم، فأشار عليه عمر بن الخطاب بقتلهم ضماناً لقوة الدولة الإسلامية لأنهم يشكلون عامل تحدٍ وخطورة، وهم من صناديد مكة.
وأشار أبو بكر الصديق بأخذ الفدية منهم، إذ كان يرى أن في ذلك قوة للمسلمين، وكان يأمل أن يهديهم الله تعالى للإسلام.
وقد أخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- برأي أبي بكر وقد تباين فداء الأسرى، فمن كان ذا مال أُخذ فداؤه، وتتناقص الأموال المأخوذة منهم بعد ذلك تبعاً لكفاءاتهم المالية، وقد حفظت لنا المصادر نماذج منها، فمن ذلك أنه استوفى من العباس بن عبد المطلب مائة أوقية من الذهب فداءً عنه، ومن عقيل بن أبي طالب ثمانين أوقية، واستوفى من آخرين أربعين أوقية، لكل منهم.
وقد نزل القرآن العظيم بعد ذلك موافقاً لرأي عمر وذلك في قوله تعالى: ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآَخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ?67? لَوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ?68? فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ?69? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَنْ فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأسْرَى إِن يَعْلَمِ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُّؤْتِكُمْ خَيْرًا مِّمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? [الأنفال: 67- 70].
لقد نزلت هذه الآيات في عتاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأنه قبل فداء الأسرى وهم رؤوس الفتنة وأئمة الكفر، إنهم كمجرمي الحرب الذين لا يجوز الإبقاء على حياتهم، وتشير الآية إلى أن الفداء ممكن بعد أن يكون المسلمون قد ثبتوا أقدامهم في الأرض وأقاموا دولة قوية.
وقد أطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- سراح عمرو بن أبي سفيان مقابل إطلاق قريش سراح سعد بن النعمان بن أكال الذي أسره أبو سفيان وهو يعتمر بالبيت العتيق.
وأطلق النبي -صلى الله عليه وسلم- سراح بعض الأسرى الذين لم يقدروا على دفع شيء، أما الأسرى الذين يعرفون القراءة والكتابة ولم يكن لدى أهليهم أو لديهم مقدرة على الفداء فقد جعل فداءهم أن يعلموا عشرة من أبناء الأنصار القراءة والكتابة.
وأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- زيدَ بن حارثة و عبد الله بن رواحة إلى المدينة ليزفا بشرى النصر، وقد تلقى المسلمون الخبر بسرور بالغ، وقد ذكر أسامة بن زيد أنه لم يصدق الخبر إلى أن رأى الأسرى مقرنين, وكانت الدهشة تعلو الوجوه.
إذ لم يصدق الناس في بادئ الأمر أن قريشاً قد هُزمت، وأن زعماءها قد أصبحوا بين قتيل وأسير، وأن كبرياءها قد تحطمت.
ارتفعت معنويات المسلمين كثيراً بعد انتصارهم الكبير في معركة بدر الكبرى، وحرصوا على تأديب المعاندين من المشركين حول المدينة، وأسلم عدد كبير من بني خطمة، وجهر بالإسلام منهم من كان يستخفي، وبعد سبع ليالٍ من عودته -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة من معركة بدر توجه إلى بين سُليم، وبلغ ماء الكدر، وأقام ثلاث ليالٍ على الماء ولم يلقَ قتالاً فرجع إلى المدينة.
وفي يوم السبت للنصف من شوال من السنة الثانية توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بني قينقاع، إذ لم يلتزم اليهود بالمعاهدة التي أبرمهما معهم ولم يوفوا بالتزاماتهم.
ووقفوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- مواقفَ عدائية، فأظهروا الحسد والغضب وجاهروا بعداوتهم بعد معركة بدر، وقد جمعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- في سوقهم بالمدينة ونصحهم، ودعاهم إلى الإسلام، وحذرهم من أن ينقضوا المعاهدة التي جعلتهم تحت رئاسته فجابهوه بقولهم: يا محمد لا يغرنك من نفسك أنك قتلت نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، إنك لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلقَ مثلنا.
وبدأت الأزمة تتفاعل وكان جوابهم يشير إلى العداوة وعدم الاحترام، وأنزل الله تعالى: ?قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ?12? قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأبْصَارِ? [آل عمران: 12، 13].
واستمر اليهود من بني قينقاع يظهرون الروح العدائية، فقد أقدم أحدهم على الاعتداء على كرامة إحدى النساء المسلمات، فعقد طرف ثوبها وهي جالسة دون أن تعلم، فلما قامت انكشفت، فاستصرخت المسلمين، فأغاثها أحدهم وقتل اليهودي، وتواثب اليهود على المسلم، فقتلوه واستصرخ أهل المسلم إخوانهم المسلمين، ووقع الشر بينهم وبين بني قينقاع.
فعقد النبي -صلى الله عليه وسلم- لواءً أبيض لحمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لُبابة بن عبد المنذر، وخرج بقواته وحاصرهم خمس عشرة ليلة، وحين اشتد عليهم الحصار نزلوا على حكم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على أن له أموالهم وأن لهم النساء والذرية، فأمر بهم فكتفوا، وكانوا صاغة وتجارًا وحلفاء عبد الله بن أبي بن سلول، وكانوا أشجع اليهود فكلمه حليفهم وألح قائلاً: أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع منعوني من الأحمر والأسود وتحصدهم في غداة واحدة؟
فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هم لك)، وأمر بهم أن يجلوا عن المدينة، وتولى أمر إجلائهم عبادة بن الصامت، فلحقوا بأذرعات، وتولى قبض أموالهم محمد بن مسلمة الأنصاري، فخُمست وقسم الباقي بين الصحابة، وأعلن عبادة بن الصامت براءته من حلفائه اليهود لمحاربتهم المسلمين ومظاهرة لله ولرسوله، فقال: يا رسول الله إن لي مواليَ من يهود كثير عددهم، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله.
ولقد أنزل الله -سبحانه وتعالى- في موالاة عبد الله بن أبي سلول لليهود وبراءة عبادة بن الصامت منهم: ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ? [المائدة: 51].
بعد هزيمة قريش في معركة بدر، أراد أبو سفيان أن يقوم بعمل انتقامي، فاصطحب معه مائتي فارس وتقدم سراً نحو المدينة في الخامس من ذي الحجة، وسلك النجدية.
ونزل بصدر قناة إلى جبل ثيب من المدينة على بعد أربعين كيلو متراً، وتسلل في الليل حتى أتى بني النضير، فطرق باب حصن حيي بن أخطب، فأبى أن يفتح له وخافه.
فانصرف عنه إلى سلام بن مشكم، وكان سيد بني النضير، فطرق بابه ففتح له، واستقبله واستضافه وسقاه، وقدم له المعلومات عن المسلمين وأسرارهم.
ثم خرج لأصحابه فبعث رجالاً من قريش للمدينة ووصلوا ناحية منها، يقال لها العُريض، فحرقوا النخل ووجدوا رجلاً من الأنصار وعاملاً له فقتلوهما وانصرفوا راجعين.
فاستغاث الناس وخرج الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طلبهم حتى بلغ قرقرة الكُدر، وعاد بعد أن فر أبا سفيان وأصحابه مخلفين وراءهم الزاد من السويق وهو القمح المحمص المطحون تخفيفاً للهرب والنجاة.
فأخذها المسلمون وعادوا إلى المدينة بغذاء وفير، وأقام الرسول -عليه الصلاة والسلام- بقية شهر ذي الحجة، ثم توجه إلى قبيلتي غطفان وسليم، فقد علم أن القبيلتين قد جمعتا جموعًا على ماء لبني سليم بقرقرة الكدر، فقد تضررت القبيلتان اقتصادياً من حصار المسلمين لقريش تجارياً، واتجه -عليه الصلاة والسلام- إليهم بمئتي مقاتل، وداهمهم على الماء، ففروا تاركين وراءهم جمالهم التي بلغ تعدادها خمسمائة بعير.
وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- في الموقع ثلاثة أيام، ثم عاد إلى المدينة.
وفي شهر صفر من السنة الثالثة للهجرة توجه النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى قبيلة غطفان التي تجمعت في ذي أمر من أرض نجد بهدف محاربة المسلمين، وسرعان ما هربوا حين علموا بتوجه النبي -صلى الله عليه وسلم- ناحيتهم.
وكان عدد جيش المسلمين أربعمائة وخمسين رجلاً، وأقام النبي -صلى الله عليه وسلم- بقواته على ماء ذي أمر طيلة شهر صفر، ثم قفل عائداً إلى المدينة، وفي جمادى الأولى توجه إلى بُحرانَ من ناحية الفرع بقوة بلغ تعدادها ثلاثمائة مقاتل مستهدفًا بني سليم الذين كانوا يؤمنون الطرق التجارية لقريش بين مكة المكرمة وبلاد الشام.
ولكنه لم يلقَ قتالاً فعاد إلى المدينة المنورة.
وأرادت قريش أن تحمي تجارتها من الأخطار التي تتعرض لها في الداخل والساحل بين مكة وبلاد الشام بعد ازدياد العملية العسكرية الإسلامية وبعد انقلاب الموازين بعد معركة بدر، ولذلك فكر تجار قريش أن يسيروا بقافلتهم عبر الطريق المتجهة إلى نجد فالعراق.
وخرج أبو سفيان على رأس قافلة شارك في تمويلها عدد كبير من تُجار قريش وهي تحمل كميات كبيرة من الفضة إضافة إلى المواد المختلفة واستأجروا دليلاً من بني بكر بن وائل، وحين علم النبي -صلى الله عليه وسلم- بخبر القافلة أرسل زيد بن حارثة على رأس مائة من المسلمين في إثرهم.
فلحقوا بهم على ماء بنجد يسمى القرضة، فأصاب القافلة وحمولتها الثمينة بعد أن فر رجالها، وذلك بعد ستة أشهر من معركة بدر الكبرى، وبلغت قيمة الغنائم مائة ألف درهم، مما عرض تجارة قريش لضربة عنيفة.
كما أن نجاح المسلمين في ضرب طريق العراق أمام تجارة قريش أدى إلى إحكام الحصار الاقتصادي عليها مما جعلها تفكر بالقيام بعمل عسكري.
معركة أحد
تعددت الأسباب التي أدت إلى نشوب القتال والحرب في أحد، وكان أهمها ما أصاب قريش في بدر بعد أن أصيب صناديدها وزعماؤها، وأصبح طريق تجارتها إلى بلاد الشام تحت سيطرة المسلمين.
كانت استعدادات قريش للحرب قد بدأت مبكرة في أعقاب هزيمتها؛ إذ اجتمع أبناء القتلى إلى أبي سفيان وأصحاب القافلة التي سلمت قبل بدر، فتنازلوا عنها ورصدوا أموالها لتجهيز جيش الثأر، واستطاع أبو سفيان الذي تولى القيادة للحرب أن يجمع من قريش وحلفائها من قبائل كنانة وأهل تهامة والأحابيش ثلاثة آلاف مقاتل، بينهم مئتا فارس وسبعمائة دارع.
فخرج بهم واصطحب هو وأعيان قريش نساءهم ليشجعوهم على القتال، ويمنعوهم التخاذل أو الفرار من المعركة.
ونزل في مكان اسمه عينين بالقرب من جبل أحد، شمال المدينة، وبلغت أنباء تقدم قوات قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فأرسل دورية استطلاع لتأتيه بالأخبار.
وأمر بالاستنفار العام وتشديد الحراسة على المدينة وجمع أصحابه ليستشيرهم في الأمر.
كان رأي عدد كبير من الصحابة وشبان المسلمين أن يخرجوا لملاقاة المشركين في مكانهم، وحجتهم في ذلك أنهم انتصروا يوم بدر وكانت نسبة تفوق المشركين أكثر مما هي الآن، وكي لا يتهموا بالجبن، وبأن المشركين اقتحموا عليهم مدينتهم.
وكان أبرز القائلين بهذا الرأي حمزة بن عبد المطلب، وقال مالك بن سنان في تأييد هذا الرأي: يا رسول الله نحن والله بين إحدى الحسنيين، إما أن يظفرنا الله بهم، أو يرزقنا الشهادة.
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يرغب في اتباع خطة جديدة واستدراج العدو إلى داخل المدينة والاشتباك معه، ويرى البقاء والتحصن وقال: (إنا في جُنَّةٍ حصينة)، وأبدى بعض الأنصار كراهة القتال في طرق المدينة وقالوا: كنا نمتنع من الغزو في الجاهلة فبالإسلام أحق أن نمتنع منه!! فابرز إلى القوم.
انطلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلبس لأمته، وتلاوم القوم وقالوا: عرض رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأمر وعرضتم بغيره، فاذهب يا حمزة فقل لنبي الله -صلى الله عليه وسلم-: أمرنا لأمرك متبِع.
فأتى حمزة وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بما كان، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما كان لنبي إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يناجز).
لبس النبي -صلى الله عليه وسلم- درعين، وعقد راية سوداء وثلاثة ألوية أحدها للمهاجرين والثاني للأوس والثالث للخزرج، وخرج على رأس ألف من أصحابه، وانخذل في الطريق عبد الله بن أبي بن سلول بثلث الجيش بعدما قطعوا شوطاً من الطريق، عاد بهم إلى المدينة وكان يرى أن يبقى في المدينة ووافق رأي النبي -صلى الله عليه وسلم- وخرج مكرهًا.
وفي الطريق قال: أطاعهم وعصاني، ما ندري على ما نقتل أنفسنا أيها الناس، وقد حاول الصحابي عبد الله بن عمرو بن حرام تدارك الأمر، فلحق بالمنافقين المنسحبين وحاول إقناعهم، وبعد أن يأس منهم سأل الله أن يبعدهم وأن يغني الله نبيه عنهم.
قال تعالى: ?وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ ?166? وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ? [آل عمران: 166، 176].
وكاد بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس وهما طائفتان من المسلمين أن يتخاذلا وينسحبا مع المنافقين لولا أن الله ثبتهم، وفيهم قال الله تعالى: ? إِذْ هَمَّت طَّائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ? [آل عمران: 122].
بقي مع الرسول -صلى الله عليه وسلم- سبعمائة رجل بعد انسحاب ابن أبي، واختار الرسول -صلى الله عليه وسلم- منهم خمسين راميًا، وعيَّنَ عليهم قائداً هو عبد الله بن جبير، وأمره أن يتمركز مع رجاله على الجبل للرمي بالنبال على خيل المشركين ومنعهم من مهاجمة المسلمين من خلفهم.
وقال لعبد الله: (إن كانت لنا أو علينا، فاثبت مكانك، لا نوتين من قبلك)، وجعل جبل أحد خلف جيشه وسوى الصفوف وأمر رجاله ألا يبدؤوا القتال حتى يأمر بذلك، وسلم اللواء لمصعب بن عمير.
وأما جيش المشركين فكان يتألف من ثلاثة آلاف رجل بينهم سبعمائة دارع، ومعهم مئتا فرس، وخرج معهم سبع عشرة امرأة، تقودهم هند بنت عتبة زوج أبو سفيان، وجعلوا على ميمنة الخيل خالد بن الوليد، وعلى الميسرة عكرمة بن أبي جهل، ووضعوا قلب الجيش في مواجهة جيش المسلمين وسلموا لواءهم إلى بني عبد الدار.
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى